إن التربية المنتجة عملية صعبة ومستمرة تحتاج إلى معايشة مع المتربين، والتربية التي تعتمد على لقاء عابر أو جلسة أسبوعية أو مناسبة عامة فقط تربية فيها نقص وخلل، ومن ثَمَّ لا يكون البناء متكاملاً، فلا نستغرب بعد ذلك من تلك المخرجات المتذبذبة والمتهلهلة التي من أبرز سماتها الإلتزام الأجوف، والناظر في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يجد أن قضية المعايشة قضية بارزة في حياته صلى الله عليه وسلم، يؤكد هذا المعنى عبد الله بن شقيق رضي الله عنه عندما سأل عائشة رضي الله عنها: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو قاعد؟ قالت: «نعم! بعدما حطمه الناس».
فقد كان صلى الله عليه وسلم يتصدى للناس، ويعايشهم، ويخالطهم، يستقبلهم ويودعهم، ويتحمل أخطاءهم، لذلك حطمه الناس، وأثَّروا في بدنه صلى الله عليه وسلم حتى أصبح يصلي جالساً، وأسرع إليه الشيب بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ويؤكد هذا المعنى أيضاً حديث أنس رضي الله عنه حيث قال: إن كان رسول الله ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: يا أبا عمير! ما فعل النغير؟».
ويؤيد هذا المعنى أيضاً حديث سماك بن حرب، حيث قال: قلت لجابر بن سمرة: كنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم! كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر جلس في مصلاَّه حتى تطلع الشمس، فيتحدث أصحابه يذكرون حديث الجاهلية، ينشدون الشعر، ويضحكون،ويبتسم صلى الله عليه وسلم».
وحسبنا في هذه الورقات أن نلقي الضوء على هذا المفهوم التربوي المهم، وأنا مؤمن بأنها لن تشبع هذا الموضوع حقه، ولكن هي إشارات عابرة، وفتح باب للباحثين حول هذا المفهوم.
مفهوم المعايشة:
إن مفهوم المعايشة هو: أن يُظهِر المربي إستعداده لمعايشة المتربين وإستقبالهم والجلوس معهم، وأن يُشعِرَهم بتوفر الوقت والمكان لديه لمعالجة قضاياهم وحل مشكلاتهم، وتتمثل أيضاً في إظهار أوقات الإستقبال وتحديدها، كالساعات المكتبية، والساعات المنزلية، والأيام، والأوقات المتوفرة للخروج مع المتربين في نشاطاتهم ورحلاتهم، وزياراتهم، وتيسير سبل الإتصال به، كالاتصال الشخصي، والكتابي، والهاتفي، ومدى الإستعداد لتذليل وسيلة النقل، كالسيارة ونحوها عند الحاجة.
والخلاصة: أن كل ما يُظهِرُه المربي من إستعداد ليكون قريباً من تلاميذه، لتربيتهم، والعناية بحاجاتهم، وحل مشكلاتهم فهو من خاصية المعايشة.
لماذا المعايشة في العمل التربوي؟
إن من أعظم المسوِّغات والدوافع التي تدفعنا لتحقيق هذا المبدأ في واقعنا التربوي وتطبيقه ثقلَ الأمانة المنوطة بعاتق المربين، إن عظيم الموقع الذي تبوأه المربي، وثقلَ الأمانة التي تحملها تجعله يجتهد غاية الإجتهاد في نصح من يربيهم، وتوجيههم، والإرتقاء بهم، كيف لا؟ وهو المعنيُّ بتلك النصوص العظيمة التي يقول فيها صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله مغلولاً يده إلى عنقه، فكه بِرُّه، أو أوثقه إثمه، أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة»، ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة»، ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته...»، ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: «ما من أمير عشرة إلا وهو يؤتى به يوم القيامة مغلولاً حتى يفكه العدل، أو يوبقه الجور».
إن هذه النصوص لتدفع كل مربِّ صادق إلى الإجتهاد فيمن يربيهم، والنصح لهم، والسعي الجاد في برهم والإحسان إليهم، وإن تطبيق هذا المفهوم التربوي في الواقع لهو سبيل لتحقيق تلك الأمور المنشودة.
المربي الأول صلى الله عليه وسلم والمعايشة:
يقول صلى الله عليه وسلم: «المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم».
لقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم أوفر الحظ والنصيب من هذا الحديث، وكان الرائد في هذا المجال، فقد بُعِثَ معلماً، يتوفر لطلابه في معظم أحيانه، فهم يجدونه في المسجد، فإن لم يكن ففي السوق أو الطريق، فإن لم يكن ذهبوا إلى بيته، وكان صلى الله عليه وسلم يستقبلهم ويعلمهم ويجيب عن أسئلتهم، ولم يكن من عادته حجب الناس عنه أو ردهم بل كان يستقبلهم، ويبتسم لهم دائماً.
عن جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال: ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا إبتسم في وجهي.
وكان صلى الله عليه وسلم يعتمد إعتماداً كبيراً على هذه الخاصية –المعايشة- في الإتصال بالمدعوين والمتربين، والتعرف عليهم والتقرب إليهم، والتأثير فيهم. فهو يعرف أسماءهم، وبعض خصائصهم، وأسماء قبائلهم، وتاريخ تلك القبائل، وأسماء بلدانهم، وخصائص تلك البلدان، ويعرف مستوياتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
هذا فيما يتعلق بالأبعدين والمستجدين، أما أصحابه ممن حوله، والمقربون منه، فيعرف كل شيء عنهم تقريباً، حاجتَهم وإستكفاءَهم، مرضهم وصحتهم، سفرهم وإقامتهم، ويعرف مستوياتهم الإيمانية والعقلية والنفسية، ويعرف قدراتهم وحظوظهم في المجالات التربوية والقيادية والمالية والحكمية والدعوية، ويتحدث مع كلٍ بما يناسبه، ويكلف كلاً منهم وفق خصائصه وقدراته.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أُبَيُّ بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا وإن لكل أمة أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ابن الجراح».
فوائد المعايشة:
للمعايشة فوائد كثيرة يجنيها المربي متى ما طبق هذا المفهوم على أرض الواقع، ولعلنا نشير إلى أهم هذه الفوائد والثمار.
أ) الحصول على الأجر والثواب من عند الله عز وجل: قال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم».
فمتى ما إستشعر المربي هذا الحديث، وإستشرف لهذا الأجر العظيم كان ذلك دافعاً له لتحقيق هذا المفهوم مع من يربيهم، فتجده لا يألو جهداً في معايشة ومخالطة المتربين، والصبر عليهم في تربيتهم، والصبر على ما يجده من أذى منهم مقابل ذلك الفضل العظيم.
ب) تهذيب أخلاق المربي: فالمعايشة تهيئ المربي أن يكون قدوة حسنة يقتدى به، ويؤخذ هذا من قوله صلى الله عليه وسلم: «ويصبر على أذاهم» ففي المعايشة نوع من تحسين المربي لذاته، وتهذيب لخُلُقه وسلوكه خاصةً أنه في مصاف القدوة. إنه لا يكفي أن يكون عند المربي ما يعطيه، بل لابد أن يكون حَسَنَ العطاء حتى يترك عطاؤه أثراً في نفس المتربي.
ج) معرفة طاقات المتربين وقدراتهم: يستطيع المربي من خلال معايشته ومخالطته لمن يربيهم اكتشاف طاقاتهم وقدراتهم ومؤهلاتهم، ومن ثَم يستطيع توجيه هذه الطاقات فيما يناسبها، ويوجه هذه القدرات في مظانها، ويضع الشخص المناسب في المكان المناسب من خلال تلك المؤهلات، ولهذا شاهد من السيرة، كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الذي مر قبل قليل: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر...»، وقال صلى الله عليه وسلم: «خذوا القرآن عن أربعة: عن ابن مسعود، وأُبيِّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة».
د) معرفة جوانب الضعف في المتربين ومن ثَمَّ معالجتها: يجتهد المربي ويسعى في تطوير المتربي والإرتقاء به، ومن محاور التطوير والإرتقاء معرفة ضعفه، وذلك من أجل تزويده بالعلاجات المناسبة فيتجاوز هذا الضعف ويرتقي، ومخالطة المتربين ومعايشتهم توفر للمربي ذلك كله.
ولقد إستطاع صلى الله عليه وسلم بمعايشته لأصحابه معرفة نقاط القوة لديهم ونقاط الضعف أيضاً، فأثنى على نقاط القوة خيراً كما مر معنا وحذر ونصح وحث في نقاط الضعف من أجل تجاوزها، وإليك هذا الشاهد: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على النبي صلى الله عليه وسلم، فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي صلى الله عليه وسلم، وكنت غلاماً أعزب، وكنت أنام في المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فرأيت في المنام مَلَكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، فلقيهما ملك خر، فقال لي: لم تراعَ، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يصلي بالليل»، قال سالم: فكان عبدالله لا ينام من الليل إلا قليلاً.
هـ) التقويم الصحيح للمتربين: يحتاج المربي في مسيرته التربوية إلى وقفات تقويمية لمن يربيهم، من أجل الإرتقاء بهم وإصلاحهم، ولا يستطيع شخص غير المربي أن يصيب التقييم الصحيح في المتربين، إذ هو أقرب الناس للمتربين من غيره، وذلك بمعايشته لهم، ومخالطته إياهم، والقرب منهم، ولهذا شاهِدٌ من السيرة النبوية، فعن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب: أن رجلاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان إسمه عبد الله، وكان يلقب حماراً، وكان يُضحِكُ النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأُتيَ به يوماً، فأَمَرَ به، فجُلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه! فوالله ما علمت: إنه يحب الله ورسوله».
لقد زجر النبي صلى الله عليه وسلم الذي سب ولعن حماراً رضي الله عنه مع أن حماراً كان يشرب الخمر، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أقرب الناس إليه بمعايشته له، وكان أعلم بأعمال حمار من غيره، لذا قال صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه! فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله» وهذا يعني أن لحمارٍ محاسنَ وحسنات في الإسلام قد لا يعلمها البعيد عنه، لا يعلمها إلا من كان معايشاً ومخالطاً له، وقريباً منه، وهذا كان متمثلاً في النبي صلى الله عليه وسلم.
و) معرفة الخصائص النفسية للمتربين: النفوس تختلف وتتباين، ولكل نفس خصائصها المجبولة عليها، والمربي الفطن هو الذي يتعرف على خصائص النفوس المتربية، فيبني عليها ماهية التعامل والأسلوب المناسب لكل نفسية، ولا يكون ذلك إلا بالمعايشة والمخالطة مع المتربين، إذ يستطيع المربي معرفة تلك الخصائص، ومن ثَمَّ معرفة الأسلوب المناسب في التعامل مع تلك النفسيات، ولهذا شاهد من السيرة النبوية، فعن عمرو بن تغلب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بمال أو سبي، فقسمه، فأعطى رجالاً، وترك رجالاً، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله، ثم أثنى عليه، ثم قال: «أما بعد: فوالله! إني لأعطي الرجل وأدَعُ الرجل، والذي أدع أحب إليَّ من الذي أعطي، ولكني إنما أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأَكِلُ أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب». قال عمرو بن تغلب: فوالله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم.
فتأمل نفاذ نظر الرسول صلى الله عليه وسلم في معرفة خصائص أتباعه، وتربية كل منهم بما يناسب طرته وميوله ودوافعه الخاصة به، وعلى ذلك فالمربي ملزم بمعرفة أتباعه وخصائصهم النفسية عن قرب، حتى يستطيع التعامل معهم والقيام بتربيتهم على أكمل وجه، ولا يكون ذلك إلا بمعايشتهم ومخالطتهم.
ز) حل مشاكل المتربين الخاصة والأسرية: يسعى المربي الناصح في برنامجه التربوي أن يوفر للمتربي الإستقرار النفسي الذي يساعده على الإستجابة، ومن ثم العطاء والإنتاجية، ولكن تبقى المشاكل الخاصة أو الأسرية في المتربين عائقاً لهذا الاستقرار، وبإمكان المربي من خلال معايشته، ومخالطته لمن يربيهم، وبقربه منهم، وإهتمامه بهم حل تلك المشكلات وتذليلها، وتجاوز تلك العقبات.
ولقد كان صلى الله عليه وسلم كذلك معايشاً لأصحابه قريباً منهم مهتماً بهم وبحل مشاكلهم، يسأل عن أحوالهم، وعما يكدر خواطرهم، ويظهر ذلك مما يلي: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة، فقال: «يا أبا أمامة! ما لي أراكَ جالساً في المسجد في غير وقت صلاة؟» قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله! قال: «أفلا أعلمك كلاماً إذا قلته أذهب الله همك، وقضى عنك دينك؟» قلت: بلى يا رسول الله! قال: «قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال»، قال: ففعلت ذلك، فأذهب الله همي وغمي، وقضى عني ديني.
أثر المعايشة في الإستجابة: معايشة المتربين ومخالطتهم له الأثر الفاعل في إستجابتهم، فبقدر ما يعطي المربي من إهتمام لهذا المفهوم في واقعه التربوي بقدر ما تكون إستجابة المسترشدين له، والإقبال عليه.
ففي قصة أصحاب الأخدود تروي لنا الأحاديث أن: الغلام كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، حتى ذاع صيته، وإنتشر خبره، فأقبل الناس عليه أفواجاً، وإستطاع بمعايشته الناس، والقرب منهم أن يكوِّن رصيداً مباركاً من حب الناس له والإقبال عليه، لقد قدم لهم وقته، وجهده، وما أعطاه الله من موهبة وطاقة، وقدموا المهج من أجل الدين الذي أتى به إعتقاداً وإستمساكاً، فينبغي للمربي أن يوجه ويذلل طاقاته، وقدراته التي يمتلكها في سبيل الله، وأن تكون مفتاحاً لمعايشة الناس، ودعوتهم بعد ذلك.
ولقد كان لهذه الخاصية –المعايشة- أثر بارز في تفاعل الناس مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وإقبالهم عليه، وتقبلهم منه، ورغبتهم في العلم والعمل الذي يوجههم إليه عن قناعة ومحبة، وكان التلاميذ مندمجين بشخصيته صلى الله عليه وسلم أيما اندماج، دونما تبذُّل أو تكلُّف، مما جعل الناتج التربوي أصيلاً وعميقاً من جهة، وواسعاً ومنتشراً من جهة أخرى.
وقد تناول الباحثون في مجال علم النفس وفي مجال العلاقات الاجتماعية هذه الخاصية بالدراسة، وإفترضوا أن لها علاقةً ما بمدى إقبال المتعلم أو المتلقي على الأستاذ، ليأخذ منه، أو يسأله، أو يقيم علاقة شخصية معه تتجاوز الإستفادة الوظيفية في المجال الأكاديمي إلى الإستشارة الشخصية والإجتماعية، وكان من بين الإفتراضات التي توقعها بعض الباحثين، وكانت صحيحة أن: المعايشة، وقرب المربي، وإظهاره لهذا القرب بتوفير الساعات المكتبية يمكن أن يكون متغيراً مهماً يقع بين عزيمة المسترشد على الذهاب للمربي وإستشارته، وبين حدوث الإسترشاد فعلاً، ومن ثَمَّ يكون ظهور المربي قريباً منهم مكاناً ووقتاً وشخصاً عاملاً مهماً في التفاعل والتأثير والإقبال، وهذا أيضاً ما أيدته بعض الأبحاث الأخرى، فقد وجد ولسن وودز أن هناك علاقة مؤثرة بين توفر الأستاذ أو المربي في ساعات معينة، وظهوره بمظهر المستعد لإستقبال المتعلمين، وقضاء وقت معهم، وبين إقبال هؤلاء المتعلمين عليه واستعانتهم به، وعرض مشكلاتهم عليه، وعلى هذا الأساس كانت الأبحاث النفسية التربوية توصي كثيراً بتوفير الوقت وتنظيمه وتحديده للمسترشدين، وأن يواكب هذا إستعداد شخصي ونفسي من المربي والمرشد، لإستقبالهم والتعامل معهم، مهما صعبت الظروف وتنوعت.
مساوئ كثرة المعايشة: هل لكثرة المعايشة سلبيات ومساوئ؟ نعم! إن الشيء إذا زاد عن حده إنقلب إلى ضده، والمعايشة ما لم تخضع لما يضبطها فإنها تصبح نقمة بعد ذلك.
وإليكم بعض هذه المساوئ:
إلْفُ المتربين للمربي، وإسقاط الكلفة بينهم وبينه، قد تؤدي إلى إستنفاد المتربين لما عند المربي من طاقة روحية وذخيرة تربوية، خاصة إذا وافق ذلك تفريط من المربي في تربية نفسه.
ربما يتحولون من مرحلة التأثر إلى مرحلة النقد.
سقوط قضية التوجيه والتربية من يد المربي، فلا تكن بعد ذلك استجابة من قِبَل المتربين.
ضوابط المعايشة:
يجتهد المربي الناصح في تحقيق هذا المبدأ في واقعه التربوي ويسعى جاهداً في ذلك، ولكن ثمة ضوابط تضبط تطبيق هذا المفهوم على أرض الواقع يجدر بنا الوقوف معها وتوضيحها إزاء تطبيق هذا المبدأ التربوي، حتى يكون المربي على بصيرة من أمره، وحتى لا يقع في إفراط أو تفريط، وحتى نحفظ للمربي دوره المنشود في ظل هذه الضوابط:
ألا تؤدي إلى التعلق المذموم بالمربي: الأصل في العملية التربوية أن الفرد الذي يُدعى يجب أن تتركز الجهود التربوية في تربيته بتوثيق صلته برب العالمين، وأن تكون صلته القوية بالله تعالى وبمنهجه القويم وألاَّ يتعلق بالبشر، ولكن كثرة المعايشة والمخالطة غير المنضبطة بالمتربين والقرب منهم قد يسبب ذلك التعلق، لاسيما إن لم تكن لتلك المعايشة أهداف تربوية يسعى المربي لتحقيقها، واستحضارها في معايشته لمن يربيهم.
فيجب على المربي التفطن لهذا الأمر، وأن تكون معايشته منضبطة بحيث لا يُكثِر منها، وأن تكون بحدود المعقول، وأن تكون مرسومة الأهداف، مستحضراً لها في معايشته، ومتى ما وجد المربي ظهور هذه الظاهرة في أحد المتربين، فيجب عليه تذكيره بالله، وتحذيره من خطورة هذا التعلق، وربطه بالله، وبالقدوة المعصوم صلى الله عليه وسلم، وطرق بعض المفاهيم العلاجية كمفهوم الفرق بين الحب في الله والحب مع الله، وغيرها من المفاهيم التربوية.
ألا يتغلب جانب التربية الجماعية على التربية الفردية: التربية تقوم على عنصرين مهمين: الجماعية والفردية، ومتى اتكأت التربية على أحد العنصرين فهي تسعى لتبني قصراً في الرمال، ومعايشة المتربين ومخالطتهم والإكثار من ذلك قد يسبب الاتكاء على جانب الجماعية فقط، فيتربى المتربي على هذا العنصر الجماعي فقط، والذي يعيش الجانب الجماعي وحده سيبقى سمكة في ماء ما تلبث حين تفارقه أو تخرج منه أن تلفظ أنفاسها، وحين يعيش الشاب على التربية الجماعية وحدها، فهو مع ما يحمل من ثغرات كبيرة في شخصيته ما يلبث أن يفقد المتربي إخوانه يوماً، فيرى نفسه أمام عَالَمٍ لم يعتد عليه.
فلم يعتد أن يبقى فارغاً، ولم يتربَّ على إغتنام وقته والإستفادة منه.
فيجب على المربي التفطُّن لهذا الأمر خلال معايشته المتربين بحيث يكون هناك توازن في تطبيق المعايشة، وألاّ يكثر منها كثرةً تغلِّب الجماعية على الفردية، وينبغي عليه أن ينمي في المتربين الشعور بالمسؤولية الفردية، وأهمية التربية الفردية وأنها لا تقل أهمية عن الجماعية، متى ما شعر أن هناك تفريطاً في هذا الجانب.
ألا تطول بالقدر الذي يؤدي إلى جرأة الشاب على من يربيه، وزوال الكلفة بينهم، بحيث تذوب شخصية المربي بين المتربين، لأنَّ من فوائد المعايشة ومخالطة المتربين، كسر الحاجز الوهمي بين المربي والمتربين، ومن ثَمَّ تكون الشفافية والأريحية في التعامل فيما بينهم. ولكن هذا لا يسوِّغ أن تكون المعايشة سبيلاً إلى سقوط الهيبة بين المربي والمتربين، بحيث تصبح القضية أُخُوَّةً خاصةً مجردةً من معاني القيادة والتوجيه والتربية، فينبغي للمربي التفطن لهذا الأمر، وأن يكون هناك قدر من التقدير والاحترام والهيبة التي تكون بوابة لمعنى القيادة والتوجيه مع المتربين، وألاَّ تذوب شخصيته بكثرة المعايشة، بحيث تسقط من يده قضية التوجيه والتربية، فلا تكون بعد ذلك الاستجابة.
ألا تؤدي إلى إهمال المربي نفسه في الارتقاء: في خضم معايشة المربي لمن يربيهم، ومخالطته إياهم، والسعي الجاد في تقديم النصح والتوجيه الذي يساهم في الارتقاء بهم، قد ينسى المربي نفسه وأن لها حقاً من الاهتمام والارتقاء بها، فمتى ما أهمل المربي نفسه في جانب الارتقاء بالنفس فلربما قاده ذلك إلى فقدان رصيده في يوم من الأيام، حتى يصبح المربي ليس عنده ما يعطي المتربي، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن ثَمَّ يفقد المربي صفة هي من أهم الصفات، وهي صفة العطاء، فنحن لا نريد أن يكون المربي كالشمعة تضيء للناس وتحرق نفسها، إنما نريده أن يكون كالشمس تضيء للآخرين مع حفاظها على خاصية التوهج في نفسها. فينبغي للمربي التوازن بين معايشة لمتربين والارتقاء بهم، وبين لارتقاء بنفسه، والتزود بما فيه صلاحها وتزكيتها، وقربها من الله.
لذلك هناك نوع من العزلة الجزئية، يُقْصَد من ورائه العزلة للتربية، حيث يخلو المرء بنفسه أحياناً بقصد التعبد، أو التزود من العلم، أو محاسبة النفس، أو نحو ذلك من الأغراض والمقاصد التربوية. وقد كان من صنع الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن وفقه قبل نزول الوحي عليه لهذا النوع من العزلة، وحبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حراء، فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود بمثلها حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء.
البعد عن الدخول في الخصوصيات: كل الكائنات الحية تحتفظ لنفسها بمجال حيوي تعد إقتحامه نوعاً من العدوان عليها، ويأتي الإنسان على رأس القائمة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101]، ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد من هذه الآية: هو السؤال عمَّا لا يعني من أحوال الناس، بحيث يؤدي ذلك إلى كشف عوراتهم، والاطلاع على مساوئهم.
ولعل مع المعايشة قد يغفل المربي عن هذا الضابط، فيُسَوِّغُ لنفسه السؤال عما لا يعني، والاطلاع على ما يخص من يربيهم دون إذنهم، وكل هذه الأمور محرمة شرعاً، وجرأة بعض المربين على تجاوزها داخل في عموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12].
ألا يهمل الوَرَعَ الشرعي الواجب: ومن ذلك ما يتعلق بصحبة ومعايشة الأمرد، فقد يخلُّ المربي بالوَرَع الشرعي في ذلك فيخلو به، أو يسافر معه وحده، أو يبيت معه، أو غير ذلك بمسوغ المعايشة، وهي أمور قد ينشأ عنها نتائج غير محمودة، لذا شدد السلف الصالح رضوان الله عليهم في صحبة الأمرد، والآثار في ذلك كثيرة ومنها:
- ما رواه البيهقي في الشُّعَب عن بعض التابعين قال: كانوا يكرهون أن يحد الرجل النظر إلى الغلام الجميل.
- روى أيضاً عن بعض التابعين: ما أنا بأخوف على الشاب الناسك من سبع ضارٍ من الغلام الأمرد يقعد إليه.
- روي عن الحسن بن ذكوان أنه قال: لا تجالسوا أولاد الأغنياء، فإن لهم صوراً كصور النساء، وهم أشد فتنة من العذارى.
قد غدت اليوم صحبة المربين لهؤلاء الأحداث ضرورة ملحَّة، ولا يسوغ أن يُهمَلوا، أو ينهى المربون عن صحبتهم بحجة الورع، ذلك أن واقع السلف كان يختلف عن واقعنا، فلم يكن البديل عندهم هو الشارع غير المنضبط أو التجمعات الساقطة مما نشهده اليوم، بل كانت البيوت ومؤسسات المجتمع التربوية تتكفل بتربية هؤلاء والعناية بهم، أما الآن فالبديل لصحبة المربين لهؤلاء هو أن يصحبهم شياطين الإنس المفسدين، والواقع شاهد بأن كثيراً من هؤلاء حين ابتعدوا عن الميادين الصالحة انزلقوا في طرق الفساد.
ومع القول بالحاجة لصحبة المربين للأحداث تبقى هذه النصوص عن السلف لها قيمتها واحترامها، فعلى المربي أن يراعي ضوابط مهمة في ذلك منها: عدم الخلوة، أو السفر مع الأمرد لوحده، ومراعاة المبيت وما يتعلق به.
ألا تؤدي إلى إشغال المتربي معظم وقته، فلا بد من ترك قدر من وقت الفراغ يُعَوِّدُه فيه على استغلال الوقت في تربية ذاته، ويتيح له فرصة الاعتناء بدراسته، وارتباطاته الاجتماعية.
التقليل من اللقاءات الفردية في غير البرامج العامة، بحجة معايشة المتربي والقرب منه أكثر، فكثير منها يتحول إلى علاقة شخصية بحتة تفقد أثرها التربوي.
الاقتصاد في المزاح والهزل، وعدم الخروج فيه عن حد الوقار والهيبة.
المربي بين المعايشة والعزلة القلبية:
يقول الدكتور سلمان العودة حفظه الله: هناك العزلة القلبية التي يقصد بها أن المؤمن الملتزم بالمنهج الصحيح، وإن خالط الناس وعاشرهم ببدنه، فإنه مزايل لهم بعلمه وقلبه، مفارق ما هم عليه من التعلق بالبدع، أو الولع بالدنيا، أو اتباع الهوى، ساع لنقلهم عما هم فيه إلى حيث السلامة والأمان، فهو يخالط الناس لغاية واضحة، هي العمل على إنتشالهم من الضلال إلى الهدى، ومن البدعة إلى السنَّة، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ولا يستطيع أن يؤدي ذلك بصورة صحيحة مؤثرة إلا من دَاخَلَ الناس وعاشرهم، وعرف أحوالهم، وأحسن إليهم بلسانه ويده ما استطاع سبيلاً.
وهذه المخالطة المقصودة تجعل في قلب المخالط شعوراً متميزاً يحميه من التأثر بأعمال الناس وأهوائهم وانحرافاتهم إلى حد بعيد، وبذلك يتمكن من اكتساب الخصائص الخيرة الجميلة التي قد تنقصه، ومن الانتفاع بالتجارب التي تزكي العقل الغريزي وتنميه، ومن الاطلاع على أحوال الزمان وأهله، ومعرفة حقيقة الانحرافات وأبعادها، ليقوم بعدُ بمدافعتها، وعلاجها بالأسلوب الأمثل، دون أن يؤدي به ذلك إلى الذوبان في المجتمع المحيط به، أو التخلي عن علمه، ونيته ودعوته.
وبذلك يجمع بين الخلطة والعزلة، الخلطة بجسده ومدخله ومخرجه، والعزلة بقلبه وعمله ومشاعره، ولذلك يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: خالطوا الناس، وزايلوهم، وصافحوهم، ودينكم لا تَكْلَمُوه.
برامج عملية وخطوات إجرائية للمعايشة:
لعل البعض يطالب بتحويل هذا الكلام النظري إلى برامج عملية وخطوات إجرائية يمكن قياسها وتقويمها، ولا شك في أهمية هذا المطلب، خاصةً أن البعض قد يجيد التنظير والتقعيد الكلامي ويعجز عن ترجمته كلامياً في أرض الواقع، لذا كان لزاماً علينا أن نضع بعض البرامج العملية والخطوات الإجرائية في معايشة المربي لمن يربيهم، وننبه إلى أهمية استثمار تلك المحاور والخطوات في التوجيه والتربية، وهي كالتالي:
مرافقته في بعض الشعائر التعبدية، كالصلاة معه، وأخذه لذلك، ومرافقته في العمرة والحج، واتباع الجنائز، وغير ذلك، واستثمار الرفقة في التوجيه والتربية.
توثيق الصلة معه بالإقبال والسلام عليه، والتبسم في وجهه، والسؤال عنه وعن أهله، والاتصال به هاتفياً من أجل ذلك، وزيارته في بيته، والسؤال عنه إذا غاب أو تأخر، والقرب منه عند وحدته، وإهدائه، وإجلاسه بجوارك عند مقابلته، والأخذ بيده، وتبادل أطراف الحديث معه في حال اللقاء به، ومناداته بأحب الأسماء إليه، وتكنيته، ومرافقته معك في السفر، ومراسلته، ومعرفة اهتماماته ومحبوباته، وغير ذلك.
مشاركته وجدانياً وذلك بالفرح لفرحه، كزواجه، أو زواج قريب له، أو نجاحه، أو حصول نعمة له، أو تجددها، أو غير ذلك، وكذلك مشاركته وجدانياً بالحزن لحزنه، كموت قريب له، أو مرضه، أو فقدان عزيز عليه، أو غير ذلك، والوقوف معه لمواساته.
إشعاره بأن له قيمة ومكانة، وذلك بعيادته إذا مرض وتصبيره، والوقوف معه، والتنزه معه، وإجابة دعوته، وإكرامه، والاستماع إلى همومه ومشكلاته، والسعي في حلها، والسعي في قضاء دَيْنِه وحاجاته، وإشعاره أنك تحترم رأيه، وغير ذلك.
مرافقته في بعض وسائل الارتقاء والتعلم، كحضور الدروس العلمية معه، والمحاضرات، والدورات الشرعية، وزيارة المخيمات الدعوية، والمكتبات الإسلامية، والتسجيلات، ومعارض الكتاب، وغير ذلك.
الخاتمة:
وبعدُ: فهذه أخي المربي كلمات وخواطر سطرها أخ لك في الله، لا تعدو أن تكون أراءً شخصية، إن أصاب فيها فمن الله، وإن أخطأ فمن نفسه والشيطان، والله ورسوله بريئان مما يقول.
أيها المربي! شمِّر عن ساعديك، واعزم على العمل، وابحث عن المُعِين، وتوكل على الله، وليكن هدفك سامياً، وهمتك عالية، لكي تستطيع أن تنتج بأقصى طاقة، ولا ترضَ بالقليل من العمل، واصدق الله يصدقك.
أيها المربي! إنه لا يكفي للقيام بواجب التربية والتوجيه الكلمات العاجلة، أو البرامج المرتجلة، فمن حق الشباب علينا وهم فلذات أكبادنا أن نُعنَى بتربيتهم، فهلاَّ نبادر في خطوات جادة للوصول إلى أسلوب أمثل في التوجيه والتربية! نأمل ذلك ونسأله سبحانه الإعانة... وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
الكاتب: سالم أحمد البطاطي